نوادر القذافي أكثر من نوادر جحا، ولكن اتضح أخيرا بعد الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس لليبيا أن القذافي هو المتندِّر على غيره وليس المتندَّر عليه، وأنه هو الضاحك وغيره المضحوك عليه، يعني زوى قوانين اللغة العربية فصار له في الساحة السياسية مع الغرب ديمومة صفة «الفاعل» وغيره مفعول به أو هو مجرور بحروف القذافي. القذافي أطلق مثيرات سياسية مدوية كتلك التي قال فيها إنه ليس رئيسا لليبيا وإن الشعب يحكم الشعب من خلال اللجان الثورية، وسمى بلاده بأطول اسم في العالم : «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى» حتى أن عبد الحميد كشك الخطيب المصري المفوه في الثمانينات زاد عليها : «الملوخية الشعيرية المهلبية» وألغى القذافي الشهور الميلادية وقال إنها من آثار الاستعمار فاعتبر شهر أغسطس اسما لحاكم غربي متسلط فغيّره إلى شهر «التمر» ، وشهر يناير حيث يشتد البرد إلى شهر «أين النار» ولاحظوا التقارب اللفظي بين الكلمتين، وهذا يذكرنا بمقولته الشهيرة إن شكسبير أصله عربي اسمه «شيخ زبير»، ولا أدري إن كان هو الذي أرجع إنفلونزا إلى أصلها العربي «أنف العنزة» بجامع السيلان فيهما! وآخر أخباره المثيرة قبل أسبوع حين بايعه ملوك وزعماء القبائل الأفريقية وتوجوه بلقب «ملك الملوك» وأما أم الإثارات فقراره الأخير إلغاء عدد كبير من الوزارات وتوزيع مداخيل النفط على شعب بلاده مباشرة! أخبار القذافي المثيرة وتعليقاته الساخنة التي لا تنتهي توحي للوهلة الأولى بأنها مادة للضحك، ولكن انظروا كيف يضحك على غيره، لاحظوا كيف قرص القذافي أذن الرئيس الفرنسي ساركوزي وهو رئيس إحدى كبريات الديموقراطيات في العالم ليصرح بأن الرئيس الليبي حاكم ليس دكتاتوريا، وشاهدنا هذه الأيام كيف حول القذافي أمريكا إلى «مسخرة» بزيارة وزيرة خارجيتها لليبيا وهي أول زيارة بهذا المستوى الدبلوماسي الأمريكي الرفيع منذ 55 عاما، والرئيس القذافي هو هو لم يتغير فيه شيء، الطريف أن الرئيس الليبي وهو المتيم بالهوى الأفريقي أجاب مندوب صحيفة الديلي تيليجراف عندما سأله عن كوندوليزا رايس فقال : (أدعم عزيزتي المرأة الإفريقية السوداء ، نعم ، ليزا ليزا ليزا أحبها كثيرا وأنا فخور بها وبالطريقة التي تملي فيها الأوامر على القادة العرب!!). الرئيس القذافي كان إلى قبل سنوات قليلة يعتبر في العين الأمريكية المرشح رقم واحد للإسقاط بعد صدام حسين، فبعد أن جندلت أمريكا رأس حاكم العراق القوي بشرت أمريكا بعهد جديد للديموقراطية في المنطقة العربية وعينها على الرئيس الليبي، فهم القذافي اللعبة وقرأ الأحداث بغريزة البقاء أو الفناء فألقى على القط الأمريكي «عظم» التنازل عن أسلحة الدمار الشامل (هذا إذا افترضنا وجودها أصلا)، فانشغل القط بنهش العظم «المفترض» عن الهدف الحقيقي، ولكم أن تقارنوا بين براعة القذافي في قراءته الذكية للأحداث ودهائه في النفاذ بجلده، وبين صدام برعونة قراراته وتصرفاته الخرقاء التي أهلكته وذريته وجرت بلاده والمنطقة كلها إلى هاوية من الحسابات المعقدة لا يعلم إلا ربي منتهاها.